الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المغني **
يستحب الاغتسال لدخول مكة (لأن عبد الله بن عمر كان يغتسل, ثم يدخل مكة نهارا ويذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعله) متفق عليه وللبخاري (أن ابن عمر كان إذا دخل أدنى الحرم, أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي الصبح ويغتسل, ويحدث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يفعل ذلك) ولأن مكة مجمع أهل النسك فإذا قصدها استحب له الاغتسال كالخارج إلى الجمعة والمرأة كالرجل, وإن كانت حائضا أو نفساء لقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعائشة وقد حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) ولأن الغسل يراد للتنظيف وهذا يحصل مع الحيض, فاستحب لها ذلك وهذا مذهب الشافعي وفعله عروة والأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون, والحارث بن سويد. ويستحب أن يدخل مكة من أعلاها لما روى ابن عمر (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة من الثنية العليا التي بالبطحاء وخرج من الثنية السفلى) وروت عائشة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (لما جاء مكة دخل من أعلاها, وخرج من أسفلها) متفق عليهما ولا بأس أن يدخلها ليلا أو نهارا (لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة ليلا ونهارا) رواهما النسائي. قال: أبو القاسم -رحمه الله-: [ فإذا دخل المسجد فالاستحباب له أن يدخل من باب بني شيبة, فإذا رأى البيت رفع يديه وكبر ] إنما استحب دخول المسجد من باب بني شيبة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل منه وفي حديث جابر الذي رواه مسلم وغيره (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة ارتفاع الضحى, وأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد) ويستحب رفع اليدين عند رؤية البيت روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وبه قال الثوري, وابن المبارك والشافعي وإسحاق وكان مالك لا يرى رفع اليدين لما روي عن المهاجر المكي, قال: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل يرى البيت أيرفع يديه؟ قال: ما كنت أظن أحدا يفعل هذا إلا اليهود, حججنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلم يكن يفعله رواه النسائي ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: افتتاح الصلاة, واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة وعلى الموقفين والجمرتين) وهذا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وذاك من قول جابر, وخبره عن ظنه وفعله وقد خالفه ابن عمر وابن عباس ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت, وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء. ويستحب أن يدعو عند رؤية البيت فيقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام, حينا ربنا بالسلام اللهم زد هذا البيت تعظيما وتشريفا, وتكريما ومهابة وبرا, وزد من عظمه وشرفه ممن حجه واعتمره تعظيما وتشريفا, وتكريما ومهابة وبرا, الحمد لله رب العالمين كثيرا كما هو أهله وكما ينبغي لكرم وجهه, وعز جلاله الحمد لله الذي بلغني بيته ورآني لذلك أهلا, والحمد لله على كل حال اللهم إنك دعوت إلى حج بيتك الحرام وقد جئتك لذلك, اللهم تقبل مني واعف عني وأصلح لي شأني كله, لا إله إلا أنت قال الشافعي في "مسنده" : أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى البيت رفع يديه, وقال: اللهم زد هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما, ومهابة وبرا وزد من شرفه, ممن حجه واعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما, وبرا) وروي بإسناده عن سعيد بن المسيب أنه كان حين ينظر إلى البيت يقول: "اللهم أنت السلام, ومنك السلام حينا ربنا بالسلام" قال بعض أصحابنا: يرفع صوته بذلك. وإذا دخل المسجد فذكر فريضة أو فائتة, أو أقيمت الصلاة المكتوبة قدمهما على الطواف لأن ذلك فرض والطواف تحية, ولأنه لو أقيمت الصلاة في أثناء طوافه قطعه لأجلها فلأن يبدأ بها أولى وإن خاف فوت ركعتي الفجر, أو الوتر أو أحضرت جنازة قدمها لأنها سنة يخاف فوتها, والطواف لا يفوت. قال: [ ثم أتى الحجر الأسود إن كان فاستلمه إن استطاع, وقبله ] معنى "استلمه" أي مسحه بيده مأخوذ من السلام وهي الحجارة فإذا مسح الحجر قيل استلم, أي: مس السلام قاله ابن قتيبة والمستحب لمن دخل المسجد أن لا يعرج على شيء قبل الطواف بالبيت اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه كان يفعل ذلك قال جابر في حديثه الصحيح: (حتى أتينا البيت معه, استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا) وعن عروة بن الزبير, عن عائشة (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم مكة توضأ ثم طاف بالبيت) متفق عليه وروى ذلك عروة عن أبي بكر, وعمر وعثمان وعبد الله بن عمر, ومعاوية وابن الزبير والمهاجرين, وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر, ولأن الطواف تحية المسجد الحرام فاستحب البداية به كما استحب لداخل غيره من المساجد أن يصلي ركعتين ويبتدئ الطواف بالحجر الأسود, فيستلمه وهو أن يمسحه بيده ويقبله قال أسلم: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل الحجر, وقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا إني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبلك ما قبلتك متفق عليه وروى ابن ماجه عن ابن عمر, قال: (استقبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحجر ثم وضع شفتيه عليه يبكي طويلا ثم التفت, فإذا هو بعمر بن الخطاب رضي الله عنه يبكي فقال: يا عمر ها هنا تسكب العبرات) وقول الخرقي: "إن كان" يعني إن كان الحجر في موضعه لم يذهب به, كما ذهب به القرامطة مرة حين ظهروا على مكة فإذا كان ذلك, والعياذ بالله فإنه يقف مقابلا لمكانه ويستلم الركن وإن كان الحجر موجودا في موضعه, استلمه وقبله فإن لم يمكنه استلامه وتقبيله قام حياله أي بحذائه, واستقبله بوجهه فكبر وهلل وهكذا إن كان راكبا, فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: (طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعير, كلما أتى الحجر أشار إليه بشيء في يده وكبر) وروي عن (النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لعمر: إنك لرجل شديد تؤذي الضعيف إذا طفت بالبيت, فإذ رأيت خلوة من الحجر فادن منه وإلا فكبر ثم امض) فإن أمكنه استلام الحجر بشيء في يده, كالعصا ونحوها فعل فقد روى ابن عباس (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاف في حجة الوداع, يستلم الركن بمحجن) وهذا كله مستحب ويقول عند استلام الحجر: (باسم الله والله أكبر إيمانا بك, وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-) رواه عبد الله بن السائب, عن النبي -صلى الله عليه وسلم-. ويحاذي الحجر بجميع بدنه فإن حاذاه ببعضه احتمل أن يجزئه لأنه حكم يتعلق بالبدن, فأجزأ فيه بعضه كالحد ويحتمل أن لا يجزئه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- استقبل الحجر واستلمه, وظاهر هذا أنه استقبله بجميع بدنه ولأن ما لزمه استقباله لزمه بجميع بدنه, كالقبلة فإذا قلنا بوجوب ذلك فلم يفعله أو بدأ بالطواف من دون الركن, كالباب ونحوه لم يحتسب له بذلك الشوط ويحتسب بالشوط الثاني وما بعده, ويصير الثاني أوله لأنه قد حاذى فيه الحجر بجميع بدنه وأتى على جميعه فإذا أكمل سبعة أشواط غير الأول, صح طوافه وإلا لم يصح. والمرأة كالرجل إلا أنها إذا قدمت مكة نهارا, فأمنت الحيض والنفاس استحب لها تأخير الطواف إلى الليل ليكون أستر لها ولا يستحب لها مزاحمة الرجال لاستلام الحجر, لكن تشير بيدها إليه كالذي لا يمكنه الوصول إليه كما روى عطاء, قال: كانت عائشة تطوف حجزة من الرجال لا تخالطهم فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين قالت: انطلقي عنك وأبت وإن خافت حيضا أو نفاسا, استحب لها تعجيل الطواف كي لا يفوتها. قال: [ ويضطبع بردائه ] معنى الاضطباع أن يجعل وسط الرداء تحت كتفه اليمنى ويرد طرفيه على كتفه اليسرى, ويبقي كتفه اليمنى مكشوفة وهو مأخوذ من الضبع وهو عضد الإنسان افتعال منه, وكان أصله اضتبع فقلبوا التاء طاء لأن التاء متى وضعت بعد ضاد أو صاد أو طاء ساكنة قلبت طاء ويستحب الاضطباع في طواف القدوم لما روى أبو داود وابن ماجه, عن يعلى بن أمية أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (طاف مضطبعا) ورويا أيضا عن ابن عباس (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه اعتمروا من الجعرانة, فرملوا بالبيت وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى) وبهذا قال الشافعي, وكثير من أهل العلم وقال مالك: ليس الاضطباع بسنة وقال: لم أسمع أحدا من أهل العلم ببلدنا يذكر أن الاضطباع سنة وقد ثبت بما روينا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فعلوه وقد أمر الله تعالى باتباعه وقال: قال: [ ورمل ثلاثة أشواط ومشى أربعة, كل ذلك من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ] معنى الرمل إسراع المشي مع مقاربة الخطو من غير وثب وهو سنة في الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم ولا نعلم فيه بين أهل العلم خلافا وقد ثبت (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمل ثلاثا ومشى أربعا) رواه جابر وابن عباس, وابن عمر وأحاديثهم متفق عليها فإن قيل: إنما رمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه لإظهار الجلد للمشركين ولم يبق ذلك المعنى, إذ قد نفى الله المشركين فلم قلتم: إن الحكم يبقى بعد زوال علته؟ قلنا: قد رمل النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه واضطبع في حجة الوداع بعد الفتح, فثبت أنها سنة ثابتة وقال ابن عباس: (رمل النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمره كلها وفي حجه) وأبو بكر وعمر, وعثمان والخلفاء من بعده رواه أحمد في "المسند" وقد ذكرنا حديث عمر إذا ثبت هذا, فإن الرمل سنة في الأشواط الثلاثة بكمالها يرمل من الحجر إلى أن يعود إليه لا يمشي في شيء منها روي ذلك عن عمر, وابن عمر وابن مسعود وابن الزبير رضي الله عنهم وبه قال عروة, والنخعي ومالك والثوري, والشافعي وأصحاب الرأي وقال طاوس وعطاء, والحسن وسعيد بن جبير والقاسم بن محمد, وسالم بن عبد الله: يمشي ما بين الركنين لما روى ابن عباس قال: (قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه مكة وقد وهنتهم الحمى, فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شرا فأطلع الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- على ما قالوا فلما قدموا قعد المشركون مما يلي الحجر, فأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم, فلما رأوهم رملوا قال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد منا) قال ابن عباس: ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها, إلا الإبقاء عليهم متفق عليه ولنا ما روى ابن عمر (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رمل من الحجر إلى الحجر) وفي مسلم عن جابر, قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رمل من الحجر حتى انتهى إليه) وهذا يقدم على حديث ابن عباس لوجوه منها أن هذا إثبات, ومنها أن رواية ابن عباس إخبار عن عمرة القضية وهذا إخبار عن فعل في حجة الوداع فيكون متأخرا, فيجب العمل به وتقديمه الثالث أن ابن عباس كان في تلك الحال صغيرا لا يضبط مثل جابر وابن عمر, فإنهما كانا رجلين يتتبعان أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- ويحرصان على حفظها فهما أعلم, ولأن جلة الصحابة عملوا بما ذكرنا ولو علموا من النبي -صلى الله عليه وسلم- ما قال ابن عباس ما عدلوا عنه إلى غيره ويحتمل أن يكون ما رواه ابن عباس اختص بالذين كانوا في عمرة القضية لضعفهم, والإبقاء عليهم وما رويناه سنة في سائر الناس. يستحب الدنو من البيت لأنه هو المقصود فإن كان قرب البيت زحام فظن أنه إذا وقف لم يؤذ أحدا, وتمكن من الرمل وقف ليجمع بين الرمل والدنو من البيت وإن لم يظن ذلك وظن أنه إذا كان في حاشية الناس تمكن من الرمل, فعل وكان أولى من الدنو وإن كان لا يتمكن من الرمل أيضا أو يختلط بالنساء, فالدنو أولى ويطوف كيفما أمكنه وإذا وجد فرجة رمل فيها وإن تباعد من البيت في الطواف أجزأه ما لم يخرج من المسجد, سواء حال بينه وبين البيت حائل من قبة أو غيره أو لم يحل لأن الحائل في المسجد لا يضر, كما لو صلى في المسجد مؤتما بالإمام من وراء حائل وقد روت أم سلمة قالت: (شكوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني أشتكي, فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة قالت: فطفت ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينئذ يصلي إلى جنب البيت) متفق عليه. قال: [ ولا يرمل في جميع طوافه إلا هذا ] وجملة ذلك أن الرمل لا يسن في غير الأشواط الثلاثة الأول من طواف القدوم أو طواف العمرة, فإن ترك الرمل فيها لم يقضه في الأربعة الباقية لأنها هيئة فات موضعها فسقطت كالجهر في الركعتين الأولتين, ولأن المشي هيئة في الأربعة كما أن الرمل هيئة في الثلاثة فإذا رمل في الأربعة الأخيرة, كان تاركا للهيئة في جميع طوافه كتارك الجهر في الركعتين الأولتين من العشاء إذا جهر في الآخرتين ولا يسن الرمل والاضطباع في طواف سوى ما ذكرناه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إنما رملوا واضطبعوا في ذلك وذكر القاضي أن من ترك الرمل والاضطباع في طواف القدوم, أتى بهما في طواف الزيارة لأنهما سنة أمكن قضاؤها فتقضى كسنن الصلاة وهذا لا يصح لما ذكرنا في من تركه في الثلاثة الأول لا يقضيه في الأربعة, وكذلك من ترك الجهر في صلاة الجهر لا يقضيه في صلاة الظهر ولا يقتضي القياس أن تقضى هيئة عبادة في عبادة أخرى قال القاضي: ولو طاف فرمل واضطبع, ولم يسع بين الصفا والمروة فإذا طاف بعد ذلك للزيارة رمل في طوافه لأنه يرمل في السعي بعده, وهو تبع للطواف فلو قلنا: لا يرمل في الطواف أفضى إلى أن يكون التبع أكمل من المتبوع وهذا قول مجاهد, والشافعي وهذا لا يثبت بمثل هذا الرأي الضعيف فإن المتبوع لا تتغير هيئته تبعا لتبعه ولو كانا متلازمين لكان ترك الرمل في السعي تبعا لعدمه في الطواف أولى من الرمل في الطواف تبعا للسعي. فإن ترك الرمل في شوط من الثلاثة الأول, أتى به في الاثنين الباقيين وإن تركه في اثنين أتى به في الثالث وإن تركه في الثلاثة سقط كذلك قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي لأن تركه للهيئة في بعض محلها لا يسقطها في بقية محلها, كتارك الجهر في إحدى الركعتين الأولتين لا يسقطه في الثانية. قال: [ وليس على أهل مكة رمل ] وهذا قول ابن عباس وابن عمر, رحمة الله عليهما وكان ابن عمر إذا أحرم من مكة لم يرمل وهذا لأن الرمل إنما شرع في الأصل لإظهار الجلد والقوة لأهل البلد وهذا المعنى معدوم في أهل البلد والحكم في من أحرم من مكة حكم أهل مكة لما ذكرنا عن ابن عمر, ولأنه أحرم من مكة أشبه أهل البلد والمتمتع إذا أحرم بالحج من مكة ثم عاد, وقلنا: يشرع في حقه طواف القدوم لم يرمل فيه قال أحمد: ليس على أهل مكة رمل عند البيت ولا بين الصفا والمروة. قال: [ ومن نسي الرمل فلا إعادة عليه ] إنما كان كذلك لأن الرمل هيئة, فلا يجب بتركه إعادة ولا شيء كهيئات الصلاة, وكالاضطباع في الطواف ولو تركه عمدا لم يلزمه شيء أيضا وهذا قول عامة الفقهاء إلا ما حكي عن الحسن, والثوري وعبد الملك بن الماجشون أن عليه دما لأنه نسك وقد جاء في حديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من ترك نسكا, فعليه دم) ولنا أنه هيئة غير واجبة فلم يجب بتركها شيء, كالاضطباع والخبر إنما يصح عن ابن عباس وقد قال ابن عباس: من ترك الرمل, فلا شيء عليه ثم هو مخصوص بما ذكرنا ولأن طواف القدوم لا يجب بتركه شيء فترك صفة فيه أولى أن لا يجب بها لأن ذلك لا يزيد على تركه. قال: [ ويكون طاهرا في ثياب طاهرة ] يعني في الطواف وذلك لأن الطهارة من الحدث والنجاسة والستارة شرائط لصحة الطواف في المشهور عن أحمد وهو قول مالك, والشافعي وعن أحمد أن الطهارة ليست شرطا فمتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة فإن خرج إلى بلده, جبره بدم وكذلك يخرج في الطهارة من النجس والستارة وعنه في من طاف للزيارة وهو ناس للطهارة: لا شيء عليه وقال أبو حنيفة: ليس شيء من ذلك شرطا واختلف أصحابه, فقال بعضهم: هو واجب وقال بعضهم: هو سنة لأن الطواف ركن للحج فلم يشترط له الطهارة كالوقوف ولنا ما روى ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (الطواف بالبيت صلاة, إلا أنكم تتكلمون فيه) رواه الترمذي والأثرم وعن أبي هريرة أن أبا بكر الصديق بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل حجة الوداع يوم النحر, يؤذن: "لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكانت الطهارة والستارة فيها شرطا, كالصلاة وعكس ذلك الوقوف. ولا بأس بقراءة القرآن في الطواف وبذلك قال عطاء ومجاهد والثوري, وابن المبارك والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي وعن أحمد أنه يكره وروي ذلك عن عروة والحسن ومالك ولنا, أن عائشة روت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- (كان يقول في طوافه: إذا شك في الطهارة وهو في الطواف, لم يصح طوافه ذلك لأنه شك في شرط العبادة قبل الفراغ منها فأشبه ما لو شك في الطهارة في الصلاة وهو فيها وإن شك بعد الفراغ منه لم يلزمه شيء لأن الشك في شرط العبادة بعد فراغها لا يؤثر فيها وإن شك في عدد الطواف, بنى على اليقين قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك ولأنها عبادة فمتى شك فيها وهو فيها بنى على اليقين كالصلاة وإن أخبره ثقة عن عدد طوافه رجع إليه إذا كان عدلا وإن شك في ذلك بعد فراغه من الطواف, لم يلتفت إليه كما لو شك في عدد الركعات بعد فراغ الصلاة قال أحمد: إذا كان رجلان يطوفان فاختلفا في الطواف, بنيا على اليقين وهذا محمول على أنهما شكا فأما إن كان أحدهما تيقن حال نفسه لم يلتفت إلى قول غيره. وإذا فرغ المتمتع, ثم علم أنه كان على غير طهارة في أحد الطوافين لا بعينه بنى الأمر على الأشد, وهو أنه كان محدثا في طواف العمرة فلم يصح ولم يحل منها, فيلزمه دم للحلق ويكون قد أدخل الحج على العمرة فيصير قارنا, ويجزئه الطواف للحج عن النسكين ولو قدرناه من الحج لزمه إعادة الطواف ويلزمه إعادة السعي على التقديرين لأنه وجد بعد طواف غير معتد به وإن كان وطئ بعد حله من العمرة, حكمنا بأنه أدخل حجا على عمرة فأفسده فلا تصح, ويلغو ما فعله من أفعال الحج ويتحلل بالطواف الذي قصده للحج من عمرته الفاسدة وعليه دم للحلق, ودم للوطء في عمرته ولا يحصل له حج ولا عمرة ولو قدرناه من الحج لم يلزمه أكثر من إعادة الطواف والسعي, ويحصل له الحج والعمرة. قال: [ ولا يستلم ولا يقبل من الأركان إلا الأسود واليماني ] الركن اليماني قبلة أهل اليمن ويلي الركن الذي فيه الحجر الأسود, وهو آخر ما يمر عليه من الأركان في طوافه وذلك أنه يبدأ بالركن الذي فيه الحجر الأسود وهو قبلة أهل خراسان فيستلمه ويقبله, ثم يأخذ على يمين نفسه ويجعل البيت على يساره فإذا انتهى إلى الركن الثاني, وهو العراقي لم يستلمه فإذا مر بالثالث, وهو الشامي لم يستلمه أيضا وهذان الركنان يليان الحجر, فإذا وصل إلى الرابع وهو الركن اليماني استلمه قال الخرقي: "ويقبله" والصحيح عن أحمد أنه لا يقبله وهو قول أكثر أهل العلم وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يستلمه قال ابن عبد البر: جائز عند أهل العلم أن يستلم الركن اليماني, والركن الأسود لا يختلفون في شيء من ذلك وإنما الذي فرقوا به بينهما التقبيل, فرأوا تقبيل الأسود ولم يروا تقبيل اليماني وأما استلامهما فأمر مجمع عليه قال: وقد روى مجاهد, عن ابن عباس قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا استلم الركن قبله ووضع خده الأيمن عليه) قال: وهذا لا يصح وإنما يعرف التقبيل في الحجر الأسود وحده وقد روى ابن عمر (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يستلم إلا الحجر, والركن اليماني) وقال ابن عمر: ما تركت استلام هذين الركنين اليماني والحجر منذ رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستلمهما في شدة, ولا رخاء رواهما مسلم ولأن الركن اليماني مبني على قواعد إبراهيم عليه السلام فسن استلامه, كالذي فيه الحجر وأما تقبيله فلم يصح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا يسن وأما الركنان اللذان يليان الحجر فلا يسن استلامهما في قول أكثر أهل العلم وروي عن معاوية وجابر, وابن الزبير والحسن والحسين, وأنس وعروة استلامهما وقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا ولنا, قول ابن عمر: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني) وقال: ما أراه - يعني النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم, ولا طاف الناس من وراء الحجر إلا لذلك وروي عن ابن عباس أن معاوية طاف فجعل يستلم الأركان كلها, فقال له ابن عباس: لم تستلم هذين الركنين ولم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- يستلمهما؟ فقال معاوية ليس شيء من البيت مهجورا فقال ابن عباس: ويستلم الركنين الأسود واليماني في كل طوافه لأن ابن عمر قال: (كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوافه) قال نافع: وكان ابن عمر يفعله رواه أبو داود وإن لم يتمكن من تقبيل الحجر استلمه, وقبل يده وممن رأى تقبيل اليد عند استلامه ابن عمر وجابر وأبو هريرة, وأبو سعيد وابن عباس وسعيد بن جبير, وعطاء وعروة وأيوب, والثوري والشافعي وإسحاق وقال مالك: يضع يده على فيه من غير تقبيل وروي أيضا عن القاسم بن محمد ولنا (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استلمه, وقبل يده) أخرجه مسلم وفعله أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتبعهم أهل العلم على ذلك فلا يعتد بمن خالفهم وإن كان في يده شيء يمكن أن يستلم الحجر به استلمه وقبله لما روي عن ابن عباس, قال: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن) رواه مسلم فإن لم يمكنه استلامه, أشار إليه وكبر لما روى البخاري بإسناده عن ابن عباس قال: (طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على بعير, كلما أتى الركن أشار إليه وكبر). ويكبر كلما أتى الحجر أو حاذاه لما رويناه, ويقول بين الركنين: قال: [ ويكون الحجر داخلا في طوافه ؛ لأن الحجر من البيت ] إنما كان كذلك لأن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت جميعه ، بقوله : ولو طاف على جدار الحجر ، وشاذروان الكعبة ، وهو ما فضل من حائطها ، لم يجز ؛ لأن ذلك من البيت ، فإذا لم يطف به ، فلم يطف بكل البيت ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف من وراء ذلك . ولو نكس الطواف فجعل البيت على يمينه, لم يجزئه وبه قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك هيئة فلم تمنع الإجزاء, كما لو ترك الرمل والاضطباع ولنا (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- جعل البيت في الطواف على يساره وقال عليه السلام: لتأخذوا عني مناسككم) ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فكان الترتيب فيها واجبا كالصلاة, وما قاسوا عليه مخالف لما ذكرنا كما اختلف حكم هيئة الصلاة وترتيبها. قال: [ ويصلي ركعتين خلف المقام ] وجملة ذلك أنه يسن للطائف أن يصلي بعد فراغه ركعتين ويستحب أن يركعهما خلف المقام لقوله تعالى: وركعتا الطواف سنة مؤكدة غير واجبة وبه قال مالك وللشافعي قولان أحدهما أنهما واجبتان لأنهما تابعتان للطواف فكانتا واجبتين, كالسعي ولنا قوله عليه السلام: (خمس صلوات كتبهن الله على العبد من حافظ عليهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة) وهذه ليست منها (ولما سأل الأعرابي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الفرائض, ذكر الصلوات الخمس قال: فهل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) ولأنها صلاة لم تشرع لها جماعة, فلم تكن واجبة كسائر النوافل والسعي ما وجب لكونه تابعا, ولا هو مشروع مع كل طواف ولو طاف الحاج طوافا كثيرا لم يجب عليه إلا سعي واحد فإذا أتى به مع طواف القدوم, لم يأت به بعد ذلك بخلاف الركعتين فإنهما يشرعان عقيب كل طواف. وإذا صلى المكتوبة بعد طوافه, أجزأته عن ركعتي الطواف روي نحو ذلك عن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد, والحسن وسعيد بن جبير وإسحاق وعن أحمد أنه يصلي ركعتي الطواف بعد المكتوبة قال أبو بكر عبد العزيز: هو أقيس وبه قال الزهري, ومالك وأصحاب الرأي لأنه سنة فلم تجز عنها المكتوبة, كركعتي الفجر ولنا أنهما ركعتان شرعتا للنسك فأجزأت عنهما المكتوبة, كركعتي الإحرام. ولا بأس أن يجمع بين الأسابيع فإذا فرغ منها ركع لكل أسبوع ركعتين فعل ذلك عائشة, والمسور بن مخرمة وبه قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير, وإسحاق وكرهه ابن عمر والحسن والزهري, ومالك وأبو حنيفة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله ولأن تأخير الركعتين عن طوافهما يخل بالموالاة بينهما ولنا, أن الطواف يجري مجرى الصلاة يجوز جمعها ويؤخر ما بينهما فيصليها بعدها, كذلك ها هنا وكون النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله لا يوجب كراهة فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يطف أسبوعين ولا ثلاثة, وذلك غير مكروه بالاتفاق والموالاة غير معتبرة بين الطواف والركعتين بدليل أن عمر صلاهما بذي طوى, وأخرت أم سلمة ركعتي طوافها حين طافت راكبة بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخر عمر بن عبد العزيز ركوع الطواف حتى طلعت الشمس وإن ركع لكل أسبوع عقيبه كان أولى وفيه اقتداء بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وخروج من الخلاف وإذا فرغ من الركوع, وأراد الخروج إلى الصفا استحب أن يعود فيستلم الحجر نص عليه أحمد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- فعل ذلك ذكره جابر في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم- وكان ابن عمر يفعله وبه قال النخعي ومالك, والثوري والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا. قال: [ ويخرج إلى الصفا من بابه فيقف عليه فيكبر الله عز وجل, ويهلله ويحمده ويصلي على النبي -صلى الله عليه وسلم- ] وجملة ذلك أنه إذا فرغ من طوافه, وصلى ركعتين واستلم الحجر فيستحب أن يخرج إلى الصفا من بابه, فيأتي الصفا فيرقى عليه حتى يرى الكعبة ثم يستقبلها فيكبر الله عز وجل, ويهلله ويدعو بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- وما أحب من خير الدنيا والآخرة قال جابر (في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ركعتي الطواف: ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا, فلما دنا من الصفا قرأ: فإن لم يرق على الصفا فلا شيء عليه قال القاضي: لكن يجب عليه أن يستوعب ما بين الصفا والمروة, فيلصق عقيبه بأسفل الصفا ثم يسعى إلى المروة فإن لم يصعد عليها, ألصق أصابع رجليه بأسفل المروة والصعود عليها هو الأولى اقتداء بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإن ترك مما بينهما شيئا, ولو ذراعا لم يجزئه حتى يأتي به والمرأة لا يسن لها أن ترقى لئلا تزاحم الرجال, وترك ذلك أستر لها ولا ترمل في طواف ولا سعي والحكم في وجوب استيعابها ما بينهما بالمشي كحكم الرجل. قال: [ ثم ينحدر من الصفا, فيمشي حتى يأتي العلم الذي في بطن الوادي فيرمل من العلم إلى العلم ثم يمشي حتى يأتي المروة, فيقف عليها ويقول كما قال على الصفا وما دعا به أجزأه, ثم ينزل ماشيا إلى العلم ثم يرمل حتى يأتي العلم يفعل ذلك سبع مرات, يحتسب بالذهاب سعية وبالرجوع سعية يفتتح بالصفا ويختتم بالمروة ] هذا وصف السعي, وهو أن ينزل من الصفا فيمشي حتى يأتي العلم ومعناه يحاذي العلم وهو الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد, فإذا كان منه نحوا من ستة أذرع سعى سعيا شديدا حتى يحاذي العلم الآخر, وهو الميلان الأخضران اللذان بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يترك السعي, ويمشي حتى يأتي المروة فيستقبل القبلة ويدعو بمثل دعائه على الصفا وما دعا به فجائز, وليس في الدعاء شيء مؤقت ثم ينزل فيمشي في موضع مشيه ويسعى في موضع سعيه ويكثر من الدعاء والذكر فيما بين ذلك قال أبو عبد الله: كان ابن مسعود إذا سعى بين الصفا والمروة, قال: رب اغفر وارحم واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما جعل رمي الجمار, والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح حتى يكمل سبعة أشواط يحتسب بالذهاب سعية, وبالرجوع سعية وحكي عن ابن جرير وبعض أصحاب الشافعي أنهم قالوا: ذهابه ورجوعه سعية وهذا غلط لأن جابرا قال (في صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم-: ثم نزل إلى المروة, حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي حتى إذا صعدنا مشى, حتى أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا فلما كان آخر طوافه على المروة, قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي وجعلتها عمرة) وهذا يقتضي أنه آخر طوافه, ولو كان على ما ذكروه كان آخر طوافه عند الصفا في الموضع الذي بدأ منه, ولأنه في كل مرة طائف بهما فينبغي أن يحتسب بذلك مرة كما أنه إذا طاف بجميع البيت احتسب به مرة. قال: [ ويفتتح بالصفا, ويختتم بالمروة ] وجملة ذلك أن الترتيب شرط في السعي وهو أن يبدأ بالصفا فإن بدأ بالمروة لم يعتد بذلك الشوط, فإذا صار على الصفا اعتد بما يأتي به بعد ذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بدأ بالصفا وقال: (نبدأ بما بدأ الله به) وهذا قول الحسن ومالك, والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأي وعن ابن عباس أنه قال: قال الله تعالى: قال: [ وإن نسي الرمل في بعض سعيه, فلا شيء عليه ] وجملة ذلك أن الرمل في بطن الوادي سنة مستحبة لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سعى وسعى أصحابه فروت صفية بنت شيبة, عن أم ولد شيبة قالت: (رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسعى بين الصفا والمروة وهو يقول: لا يقطع الأبطح إلا شدا) وليس ذلك بواجب, ولا شيء على تاركه فإن ابن عمر قال: إن أسعى بين الصفا والمروة فقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسعى, وإن أمشي فقد رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمشي وأنا شيخ كبير رواهما ابن ماجه, وروى هذا أبو داود ولأن ترك الرمل في الطواف بالبيت لا شيء فيه فبين الصفا والمروة أولى. واختلفت الرواية في السعي فروي عن أحمد أنه ركن, لا يتم الحج إلا به وهو قول عائشة وعروة ومالك, والشافعي لما روي عن عائشة قالت: (طاف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وطاف المسلمون - يعني بين الصفا والمروة - فكانت سنة) فلعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة رواه مسلم وعن (حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار, قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو يسعى بين الصفا والمروة وإن مئزره ليدور في وسطه من شدة سعيه, حتى إني لأقول: إني لأرى ركبتيه وسمعته يقول: اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي) رواه ابن ماجه ولأنه نسك في الحج والعمرة فكان ركنا فيهما, كالطواف بالبيت وروي عن أحمد أنه سنة لا يجب بتركه دم روي ذلك عن ابن عباس وأنس, وابن الزبير وابن سيرين لقول الله تعالى: والسعي تبع للطواف لا يصح إلا أن يتقدمه طواف, فإن سعى قبله لم يصح وبذلك قال مالك والشافعي, وأصحاب الرأي وقال عطاء: يجزئه وعن أحمد: يجزئه إن كان ناسيا وإن كان عمدا لم يجزئه سعيه لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن التقديم والتأخير في حال الجهل والنسيان قال: "لا حرج" ووجه الأول (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- إنما سعى بعد طوافه, وقد قال: لتأخذوا عني مناسككم) فعلى هذا إن سعى بعد طوافه ثم علم أنه طاف بغير طهارة لم يعتد بسعيه ذلك ومتى سعى المفرد والقارن بعد طواف القدوم لم يلزمهما بعد ذلك سعي, وإن لم يسعيا معه سعيا مع طواف الزيارة ولا تجب الموالاة بين الطواف والسعي قال أحمد: لا بأس أن يؤخر السعي حتى يستريح أو إلى العشي وكان عطاء والحسن لا يريان بأسا لمن طاف بالبيت أول النهار, أن يؤخر الصفا والمروة إلى العشي وفعله القاسم وسعيد بن جبير لأن الموالاة إذا لم تجب في نفس السعي ففيما بينه وبين الطواف أولى. قال: [ فإذا فرغ من السعي, فإن كان متمتعا قصر من شعره ثم قد حل ] المتمتع الذي أحرم بالعمرة من الميقات فإذا فرغ من أفعالها, وهي الطواف والسعي قصر أو حلق وقد حل به من عمرته, إن لم يكن معه هدي لما روى ابن عمر قال: (تمتع الناس مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالعمرة إلى الحج فلما قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة قال للناس: من كان معه هدي فإنه لا يحل من شيء حرم منه, حتى يقضي حجه ومن لم يكن معه هدي فليطف بالبيت, وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل) متفق عليه ولا نعلم فيه خلافا ولا يستحب تأخير التحلل قال أبو داود: سمعت أحمد, سئل عمن دخل مكة معتمرا فلم يقصر حتى كان يوم التروية عليه شيء؟ قال: هذا لم يحل بعد, يقصر ثم يهل بالحج وليس عليه شيء, وبئس ما صنع. فأما من معه هدي فليس له أن يتحلل لكن يقيم على إحرامه, ويدخل الحج على العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا نص عليه أحمد وهو قول أبي حنيفة وعن أحمد رواية أخرى أنه يحل له التقصير من شعر رأسه خاصة, ولا يمس من أظفاره وشاربه شيئا وروي ذلك عن ابن عمر وهو قول عطاء لما روي عن معاوية قال: (قصرت من رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمشقص عند المروة) متفق عليه وقال مالك والشافعي في قول: له التحلل, ونحر هديه ويستحب نحره عند المروة وكلام الخرقي يحتمله لإطلاقه ولنا ما ذكرنا من حديث ابن عمر, وروت عائشة قالت: (خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع فأهللت بعمرة, ولم أكن سقت الهدي فقال -صلى الله عليه وسلم-: من كان معه هدي فليهل بالحج مع عمرته, ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) وعن (حفصة أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس, حلوا من العمرة ولم تحلل أنت من عمرتك؟ قال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر) متفق عليه والأحاديث فيه كثيرة وعن أحمد رواية ثالثة, في من قدم متمتعا في أشهر الحج وساق الهدي قال: إن دخلها في العشر, لم ينحر الهدي حتى ينحره يوم النحر وإن قدم قبل العشر نحر الهدي وهذا يدل على أن المتمتع إذا قدم قبل العشر حل, وإن كان معه هدي وإن قدم في العشر لم يحل وهذا قول عطاء رواه حنبل في "المناسك" وقال في من لبد أو ضفر: هو بمنزلة من ساق الهدي لحديث حفصة والرواية الأولى أولى لما فيها من الحديث الصحيح الصريح, وهو أولى بالاتباع. فأما المعتمر غير المتمتع فإنه يحل سواء كان معه هدي أو لم يكن, وسواء كان في أشهر الحج أو في غيرها لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاث عمر سوى العمرة التي مع حجته بعضهن في ذي القعدة, وقيل: كلهن في ذي القعدة فكان يحل فإن كان معه هدي نحره عند المروة وحيث نحره من الحرم جاز لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كل فجاح مكة طريق ومنحر" رواه أبو داود وابن ماجه. وقول الخرقي: "قصر من شعره, ثم قد حل" يدل على أن المستحب في حق المتمتع عند حله من عمرته التقصير ليكون الحلق للحج قال أحمد في رواية أبي داود: ويعجبني إذا دخل متمتعا أن يقصر ليكون الحلق للحج ولم يأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه إلا بالتقصير فقال في حديث جابر: (أحلوا من إحرامكم بطواف بين الصفا والمروة, وقصروا) وفي صفة حج النبي -صلى الله عليه وسلم-: فحل الناس كلهم وقصروا وفي حديث ابن عمر أنه قال: "من لم يكن معه هدي, فليطف بالبيت وبين الصفا والمروة وليقصر, وليحلل" متفق عليه وإن حلق جاز لأنه أحد النسكين فجاز فيه كل واحد منهما ويدل أيضا على أنه لا يحل إلا بعد التقصير وهذا ينبني على أن التقصير نسك, وهو المشهور فلا يحل إلا به وفيه رواية أخرى أنه إطلاق من محظور, فيحل بالطواف والسعي حسب وسنذكر ذلك -إن شاء الله تعالى- فإن ترك التقصير أو الحلق وقلنا: هو نسك فعليه دم وإن وطئ قبل التقصير, فعليه دم وعمرته صحيحة وبهذا قال مالك وأصحاب الرأي وحكي عن الشافعي أن عمرته تفسد لأنه وطىء قبل حله من عمرته وعن عطاء, قال: يستغفر الله تعالى ولنا ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن امرأة معتمرة, وقع بها زوجها قبل أن تقصر قال: من ترك من مناسكه شيئا أو نسيه فليهرق دما قيل: إنها موسرة قال: فلتنحر ناقة ولأن التقصير ليس بركن, فلا يفسد النسك بتركه ولا بالوطء قبله كالرمي في الحج قال أحمد, في من وقع على امرأته قبل تقصيرها من عمرتها: تذبح شاة قيل: عليه أو عليها؟ قال: عليها هي وهذا محمول على أنها طاوعته فإن أكرهها فالدم عليه وإن أحرم بالحج قبل التقصير فقد أدخل الحج على العمرة, فيصير قارنا. يلزم التقصير أو الحلق من جميع شعره وكذلك المرأة نص عليه وبه قال مالك وعن أحمد يجزئه البعض مبنيا على المسح في الطهارة وكذلك قال ابن حامد وقال الشافعي: يجزئه التقصير من ثلاث شعرات واختار ابن المنذر أنه يجزئه ما يقع عليه اسم التقصير لتناول اللفظ له ولنا, قول الله تعالى: {محلقين رءوسكم} وهذا عام في جميعه ولأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حلق جميع رأسه تفسيرا لمطلق الأمر به, فيجب الرجوع إليه ولأنه نسك تعلق بالرأس فوجب استيعابه به كالمسح فإن كان الشعر مضفورا, قصر من رءوس ضفائره كذلك قال مالك: تقصر المرأة من جميع قرونها ولا يجب التقصير من كل شعرة لأن ذلك لا يعلم إلا بحلقه. وأي قدر قصر منه أجزأه لأن الأمر به مطلق فيتناول الأقل وقال أحمد: يقصر قدر الأنملة وهو قول ابن عمر والشافعي وإسحاق, وأبي ثور وهذا محمول على الاستحباب لقول ابن عمر: وبأي شيء قصر الشعر أجزأه وكذلك لو نتفه أو أزاله بنورة لأن القصد إزالته والأمر به مطلق, فيتناول ما يقع عليه الاسم ولكن السنة الحلق أو التقصير, اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ويستحب البداية بالشق الأيمن نص عليه لما روى أنس (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال للحلاق: خذ وأشار إلى جانبه الأيمن ثم الأيسر, ثم جعل يعطيه الناس) رواه مسلم (وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يعجبه التيامن في شأنه كله) متفق عليه قال أحمد: يبدأ بالشق الأيمن حتى يجاوز العظمتين وإن قصر من شعر رأسه ما نزل عن حد الرأس أو مما يحاذيه, جاز لأن المقصود التقصير وقد حصل بخلاف المسح في الوضوء فإن الواجب المسح على الرأس, وهو ما ترأس وعلا. قال: [ وطواف النساء وسعيهن مشي كله ] قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أنه لا رمل على النساء حول البيت ولا بين الصفا والمروة, وليس عليهن اضطباع وذلك لأن الأصل فيهما إظهار الجلد ولا يقصد ذلك في حق النساء ولأن النساء يقصد فيهن الستر, وفي الرمل والاضطباع تعرض للتكشف. قال: [ ومن سعى بين الصفا والمروة على غير طهارة كرهنا له ذلك وأجزأه ] أكثر أهل العلم يرون أن لا تشترط الطهارة للسعي بين الصفا والمروة وممن قال ذلك عطاء, ومالك والشافعي وأبو ثور, وأصحاب الرأي وكان الحسن يقول: إن ذكر قبل أن يحل فليعد الطواف وإن ذكر بعدما حل, فلا شيء عليه ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لعائشة حين حاضت: (اقضي ما يقضي الحاج, غير أن لا تطوفي بالبيت) ولأن ذلك عبادة لا تتعلق بالبيت فأشبهت الوقوف قال أبو داود: سمعت أحمد يقول: إذا طافت المرأة بالبيت ثم حاضت, سعت بين الصفا والمروة ثم نفرت وروي عن عائشة وأم سلمة, أنهما قالتا: إذا طافت المرأة بالبيت وصلت ركعتين ثم حاضت, فلتطف بالصفا والمروة رواه الأثرم والمستحب مع ذلك لمن قدر على الطهارة أن لا يسعى إلا متطهرا وكذلك يستحب أن يكون طاهرا في جميع مناسكه ولا يشترط أيضا الطهارة من النجاسة والستارة للسعي لأنه إذا لم تشترط الطهارة من الحدث, وهي آكد فغيرها أولى وقد ذكر بعض أصحابنا رواية عن أحمد أن الطهارة في السعي كالطهارة في الطواف ولا تعويل عليه. قال: [ وإن أقيمت الصلاة, أو حضرت جنازة وهو يطوف أو يسعى فإذا صلى بنى ] وجملة ذلك أنه إذا تلبس بالطواف أو بالسعي, ثم أقيمت المكتوبة فإنه يصلي مع الجماعة في قول أكثر أهل العلم, منهم ابن عمر وسالم وعطاء, والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي وروي ذلك عنهم في السعي وقال مالك: يمضي في طوافه, ولا يقطعه إلا أن يخاف أن يضر بوقت الصلاة لأن الطواف صلاة فلا يقطعه لصلاة أخرى ولنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا أقيمت الصلاة, فلا صلاة إلا المكتوبة) والطواف صلاة فيدخل تحت عموم الخبر إذا ثبت ذلك في الطواف بالبيت مع تأكده ففي السعي بين الصفا والمروة أولى, مع أنه قول ابن عمر ومن سميناه من أهل العلم ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا وإذا صلى بنى على طوافه وسعيه, في قول من سمينا من أهل العلم قال ابن المنذر: ولا نعلم أحدا خالف في ذلك إلا الحسن فإنه قال: يستأنف وقول الجمهور أولى لأن هذا فعل مشروع في أثناء الطواف, فلم يقطعه كاليسير وكذلك الحكم في الجنازة إذا حضرت يصلي عليها, ثم يبني على طوافه لأنها تفوت بالتشاغل عنها قال أحمد: ويكون ابتداؤه من الحجر يعني أنه يبتدئ الشوط الذي قطعه من الحجر حين يشرع في البناء. فإن ترك الموالاة لغير ما ذكرنا وطال الفصل ابتدأ الطواف, وإن لم يطل بنى ولا فرق بين ترك الموالاة عمدا أو سهوا, مثل من يترك شوطا من الطواف يحسب أنه قد أتمه وقال أصحاب الرأي في من طاف ثلاثة أشواط من طواف الزيارة, ثم رجع إلى بلده: عليه أن يعود فيطوف ما بقي ولنا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والى بين طوافه, وقال: (خذوا عني مناسككم) ولأنه صلاة فيشترط له الموالاة كسائر الصلوات, أو نقول عبادة متعلقة بالبيت فاشترطت لها الموالاة كالصلاة, ويرجع في طول الفصل وقصره إلى العرف من غير تحديد وقد روي عن أبي عبد الله -رحمه الله- , رواية أخرى إذا كان له عذر يشغله بنى, وإن قطعه من غير عذر أو لحاجته استقبل الطواف وقال: إذا أعيا في الطواف, لا بأس أن يستريح وقال الحسن غشي عليه فحمل إلى أهله فلما أفاق أتمه قال أبو عبد الله: فإن شاء أتمه, وإن شاء استأنف وذلك لأنه قطعه لعذر فجاز البناء عليه كما لو قطعه لصلاة. فأما السعي بين الصفا والمروة, فظاهر كلام أحمد أن الموالاة غير مشترطة فيه فإنه قال في رجل كان بين الصفا والمروة فلقيه فإذا هو يعرفه, يقف فيسلم عليه ويسائله؟ قال: نعم, أمر الصفا سهل إنما كان يكره الوقوف في الطواف بالبيت فأما بين الصفا والمروة فلا بأس وقال القاضي: تشترط الموالاة فيه, قياسا على الطواف وحكاه أبو الخطاب رواية عن أحمد والأول أصح فإنه نسك لا يتعلق بالبيت فلم تشترط له الموالاة كالرمي والحلاق وقد روى الأثرم, أن سودة بنت عبد الله بن عمر امرأة عروة بن الزبير سعت بين الصفا والمروة, فقضت طوافها في ثلاثة أيام وكانت ضخمة وكان عطاء لا يرى بأسا أن يستريح بينهما ولا يصح قياسه على الطواف لأن الطواف يتعلق بالبيت, وهو صلاة تشترط له الطهارة والستارة فاشترطت له الموالاة بخلاف السعي. قال: [ وإن أحدث في بعض طوافه, تطهر وابتدأ الطواف إذا كان فرضا ] أما إذا أحدث عمدا فإنه يبتدئ الطواف لأن الطهارة شرط له, فإذا أحدث عمدا أبطله كالصلاة وإن سبقه الحدث, ففيه روايتان: إحداهما يبتدئ أيضا وهو قول الحسن ومالك, قياسا على الصلاة والرواية الثانية يتوضأ ويبني وبها قال الشافعي, وإسحاق قال حنبل عن أحمد في من طاف ثلاثة أشواط أو أكثر: يتوضأ فإن شاء بنى وإن شاء استأنف قال أبو عبد الله: يبني إذا لم يحدث حدثا إلا الوضوء, فإن عمل عملا غير ذلك استقبل الطواف وذلك لأن الموالاة تسقط عند العذر في إحدى الروايتين وهذا معذور, فجاز البناء وإن اشتغل بغير الوضوء فقد ترك الموالاة لغير عذر, فلزمه الابتداء إذا كان الطواف فرضا فأما المسنون فلا يجب إعادته, كالصلاة المسنونة إذا بطلت. قال: [ ومن طاف وسعى محمولا لعلة أجزأه ] لا نعلم بين أهل العلم خلافا في صحة طواف الراكب إذا كان له عذر فإن ابن عباس روى (أن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف في حجة الوداع على بعير, يستلم الركن بمحجن) وعن أم سلمة قالت: (شكوت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إني أشتكي فقال: طوفي من وراء الناس, وأنت راكبة) متفق عليهما وقال جابر: (طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- على راحلته بالبيت وبين الصفا والمروة, ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه, فإن الناس غشوه) والمحمول كالراكب فيما ذكرناه. فأما الطواف راكبا أو محمولا لغير عذر فمفهوم كلام الخرقي أنه لا يجزئ وهو إحدى الروايات عن أحمد لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- (قال: الطواف بالبيت صلاة) ولأنها عبادة تتعلق بالبيت فلم يجز فعلها راكبا لغير عذر, كالصلاة والثانية يجزئه ويجبره بدم وهو قول مالك وبه قال أبو حنيفة, إلا أنه قال: يعيد ما كان بمكة فإن رجع جبره بدم لأنه ترك صفة واجبة في ركن الحج فأشبه ما لو وقف بعرفة نهارا, ودفع قبل غروب الشمس والثالثة يجزئه ولا شيء عليه اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي, وابن المنذر لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- طاف راكبا قال ابن المنذر: لا قول لأحد مع فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ولأن الله تعالى أمر بالطواف مطلقا فكيفما أتى به أجزأه ولا يجوز تقييد المطلق بغير دليل ولا خلاف في أن الطواف راجلا أفضل لأن أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- طافوا مشيا, والنبي -صلى الله عليه وسلم- في غير حجة الوداع طاف مشيا وفي قول أم سلمة: (شكوت إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- إني أشتكي فقال: طوفي من وراء الناس, وأنت راكبة) دليل على أن الطواف إنما يكون مشيا وإنما طاف النبي -صلى الله عليه وسلم- راكبا لعذر فإن ابن عباس روى (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كثر عليه الناس يقولون: هذا محمد هذا محمد حتى خرج العواتق من البيوت, وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يضرب الناس بين يديه فلما كثروا عليه ركب) رواه مسلم وكذلك في حديث جابر فإن الناس غشوه وروي عن ابن عباس (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طاف راكبا لشكاة به) وبهذا يعتذر من منع الطواف راكبا عن طواف النبي -صلى الله عليه وسلم- والحديث الأول أثبت فعلى هذا يكون كثرة الناس, وشدة الزحام عذرا ويحتمل أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- قصد تعليم الناس مناسكهم فلم يتمكن منه إلا بالركوب والله أعلم. إذا طاف راكبا, أو محمولا فلا رمل عليه وقال القاضي: يخب به بعيره والأول أصح لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يفعله ولا أمر به, ولأن معنى الرمل لا يتحقق فيه. فأما السعي راكبا فيجزئه لعذر ولغير عذر لأن المعنى الذي منع الطواف راكبا غير موجود فيه. قال: [ ومن كان مفردا أو قارنا, أحببنا له أن يفسخ إذا طاف وسعى ويجعلها عمرة إلا أن يكون معه هدي, فيكون على إحرامه ] أما إذا كان معه هدي فليس له أن يحل من إحرام الحج ويجعله عمرة, بغير خلاف نعلمه وقد روى ابن عمر (أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قدم مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شيء حرم منه, حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت, وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل, ثم ليهل بالحج وليهد ومن لم يجد هديا, فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله) متفق عليه وأما من لا هدي معه ممن كان مفردا أو قارنا فيستحب له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيته بالحج, وينوي عمرة مفردة فيقصر ويحل من إحرامه ليصير متمتعا, إن لم يكن وقف بعرفة وكان ابن عباس يرى أن من طاف بالبيت وسعى فقد حل, وإن لم ينو ذلك وبما ذكرناه قال الحسن ومجاهد وداود, وأكثر أهل العلم على أنه لا يجوز له ذلك لأن الحج أحد النسكين فلم يجز فسخه كالعمرة, فروى ابن ماجه بإسناده عن الحارث بن بلال المزني, عن أبيه (أنه قال: يا رسول الله فسخ الحج لنا خاصة أو لمن أتى؟ قال: لنا خاصة) وروى أيضا عن المرقع الأسدي, عن أبي ذر قال: (كان ما أذن لنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حين دخلنا مكة أن نجعلها عمرة ونحل من كل شيء, أن تلك كانت لنا خاصة رخصة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دون جميع الناس). ولنا أنه قد صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه أمر أصحابه في حجة الوداع الذين أفردوا الحج وقرنوا, أن يحلوا كلهم ويجعلوها عمرة إلا من كان معه الهدي, وثبت ذلك في أحاديث كثيرة متفق عليهن بحيث يقرب من التواتر والقطع, ولم يختلف في صحة ذلك وثبوته عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحد من أهل العلم علمناه وذكر أبو حفص في "شرحه" قال: سمعت أبا عبد الله بن بطة يقول: سمعت أبا بكر بن أيوب يقول: سمعت إبراهيم الحربي يقول, وسئل عن فسخ الحج فقال: قال سلمة بن شبيب لأحمد بن حنبل: يا أبا عبد الله كل شيء منك حسن جميل, إلا خلة واحدة فقال: وما هي؟ قال تقول بفسخ الحج فقال أحمد: قد كنت أرى أن لك عقلا عندي ثمانية عشر حديثا صحاحا جيادا كلها في فسخ الحج, أتركها لقولك وقد روى فسخ الحج ابن عمر وابن عباس وجابر, وعائشة وأحاديثهم متفق عليها ورواه غيرهم وأحاديثهم كلها صحاح قال أحمد: روي الفسخ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث جابر, وعائشة وأسماء والبراء, وابن عمر وسبرة الجهني وفي لفظ حديث جابر, قال: (أهللنا أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالحج خالصا وحده وليس معه عمرة فقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- صبح رابعة مضت من ذي الحجة, فلما قدمنا أمرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن نحل قال: حلوا, وأصيبوا من النساء قال: فبلغه عنا أنا نقول: لم يكن بيننا وبين عرفة إلا خمس ليال أمرنا أن نحل إلى نسائنا فنأتي عرفة تقطر مذاكيرنا المني قال: فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: قد علمتم إني أتقاكم لله, وأصدقكم وأبركم ولولا هديي لحللت كما تحلون, فحلوا ولو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت قال: فحللنا, وسمعنا وأطعنا قال فقال سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي: متعتنا هذه يا رسول الله لعامنا هذا أم للأبد؟ فظنه محمد بن بكر, أنه قال: للأبد) متفق عليه فأما حديثهم فقال أحمد: روى هذا الحديث الحارث بن بلال فمن الحارث بن بلال؟ يعني أنه مجهول ولم يروه إلا الدراوردي, وحديث أبي ذر رواه مرقع الأسدي فمن مرقع الأسدي شاعر من أهل الكوفة, ولم يلق أبا ذر فقيل له: أفليس قد روى الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر؟ قال: كانت متعة الحج لنا خاصة أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: أفيقول بهذا أحد؟ المتعة في كتاب الله, وقد أجمع الناس على أنها جائزة قال الجوزجاني: مرقع الأسدي ليس بمشهور ومثل هذه الأحاديث في ضعفها وجهالة رواتها لا تقبل إذا انفردت, فكيف تقبل في رد حكم ثابت بالتواتر مع أن قول أبي ذر من رأيه وقد خالفه من هو أعلم منه, وقد شذ به عن الصحابة رضي الله عنهم فلا يلتفت إلى هذا, وقد اختلف لفظه ففي أصح الطريقين عنه قوله مخالف لكتاب الله تعالى وقول رسول الله, وإجماع المسلمين وسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الثابتة الصحيحة فلا يحل الاحتجاج به وأما قياسهم في مقابلة قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلا يقبل, على أن قياس الحج على العمرة في هذا لا يصح فإنه يجوز قلب الحج إلى العمرة في حق من فاته الحج ومن حصر عن عرفة, والعمرة لا تصير حجا بحال ولأن فسخ الحج إلى العمرة يصير به متمتعا فتحصل الفضيلة وفسخ العمرة إلى الحج يفوت الفضيلة, ولا يلزم من مشروعية ما يحصل به الفضيلة مشروعية تفويتها. وإذا فسخ الحج إلى العمرة صار متمتعا حكمه حكم المتمتعين في وجوب الدم وغيره وقال القاضي: لا يجب الدم لأن من شرط وجوبه أن ينوي في ابتداء العمرة, أو في أثنائها أنه متمتع وهذه دعوى لا دليل عليها تخالف عموم الكتاب وصريح السنة الثابتة, فإن الله تعالى قال: قال: [ ومن كان متمتعا, قطع التلبية إذا وصل إلى البيت ] قال أبو عبد الله: يقطع المعتمر التلبية إذا استلم الركن وهو معنى قول الخرقي: "إذا وصل إلى البيت" وبهذا قال ابن عباس وعطاء وعمرو بن ميمون, وطاوس والنخعي والثوري, والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي وقال ابن عمر, وعروة والحسن: يقطعها إذا دخل الحرم وقال سعيد بن المسيب: يقطعها حين يرى عرش مكة وحكي عن مالك أنه إن أحرم من الميقات, قطع التلبية إذا وصل إلى الحرم وإن أحرم بها من أدنى الحل قطع التلبية حين يرى البيت، ولنا ما روي عن ابن عباس يرفع الحديث: (كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر) قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح وروى عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده عن (النبي -صلى الله عليه وسلم- اعتمر ثلاث عمر, ولم يزل يلبي حتى استلم الحجر) ولأن التلبية إجابة إلى العبادة وإشعار للإقامة عليها وإنما يتركها إذا شرع فيما ينافيها, وهو التحلل منها والتحلل يحصل بالطواف والسعي فإذا شرع في الطواف فقد أخذ في التحلل, فينبغي أن يقطع التلبية كالحج إذا شرع في رمي جمرة العقبة لحصول التحلل بها وأما قبل ذلك, فلم يشرع فيما ينافيها فلا معنى لقطعها والله تعالى أعلم.
|